فصل: بيان ما على الممدوح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان تحريم الغيبة بالقلب

اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك تسيء الظن بأخيك ولست أعني به إلا عقد القلب وحكه على غيره بالسوء‏.‏

فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضاً معفو عنه ولكن المنهي عنه أن يظن والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب‏.‏

فقد قال الله تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ‏"‏ وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق وقد قال الله تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة ‏"‏ فلا يجوز تصديق إبليس وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد واحتمل خلافه لم يجز أن تصدق به لأن الفاسق يتصور أن بصدق في خيره ولكن لا يجوز لك أن تصدق به حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر لا يجوز أن يحد إذ يقال يمكن أن يكون قد تمضمض بالخمر ومجها وما شربها أو حمل عليه قهراً فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة فلا يجوز تصديقها بالقلب وإساءة الظن بالمسلم بها وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث فتقول‏:‏ أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفوراً ما ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتنام بسببه فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث في المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل ولا في القلب ولا في الجوارح‏.‏

أما في القلب‏:‏ فبتغيره إلى النفرة والكراهة‏.‏

وأما في الجوارح‏:‏ فبالعمل بموجبه‏.‏

والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله وأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذرواً لأنك لو كذبته لكنت جانياً على هذا العدل إذ ظننت به الكذب وذلك أيضاً من سوء الظن فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيء بالآخر‏.‏

نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت فتتطرق التهمة بسببه فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد للتهمة ورد شهادة العدو فلك عند ذلك أن تتوقف وإن كان عدلاً فلا تصدقه ولا تكذبه ولكن تقول في نفسك‏:‏ المذكور حاله كان عندي في ستر الله تعالى وكان أمره محجوباً عني وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره وقد يكون الرجل ظاهره العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور ولكن قد يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم فهذا قد يظن أنه عدل وليس بعدل فإن المغتاب فاسق وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق‏.‏

ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة‏.‏

ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستحقار وتترفع عليه بإيذاء الواعظ‏.‏

وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخل عليلا نقصان في دينك‏:‏ وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة‏.‏

فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه‏.‏

ومن ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضاً منهي عنه قال الله تعالى ‏"‏ ولا تجسسوا ‏"‏ فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة‏.‏

ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله فيتوصل إلا الإطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستوراً عنه كان أسلم لقلبه ودينه‏.‏

وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته‏.‏

بيان الأعذار المرخصة في الغيبة

اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور‏:‏ الأول‏:‏ التظلم فإن من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً إن لم يكن مظلوماً‏.‏

أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن لصاحب الحق مقالاً وقال عليه السلام ‏"‏ مطل الغنى ظلم وقال عليه السلام ‏"‏ لي الواجد يحل عقوبته وعرضه‏.‏

الثاني‏:‏ الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح كما روي أن عمر رضي الله عنه مر على عثمان - وقيل على طلحة - رضي الله عنه فسلم عليه فلم يرد السلام‏.‏

فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك فجاء أبو بكر إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم‏.‏

وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا جندل قا عاقر الخمر بالشام كتب إليه ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ‏"‏ الآية فتاب ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً‏.‏

الثالث‏:‏ الاستفتاء كما يقول المفتي ظلمتي أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريق في الخلاص والأسلم التعريض بأن يقول‏:‏ ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال ‏"‏ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها صلى الله عليه وسلم إذ كان قصدها الاستفتاء‏.‏

الرابع‏:‏ تحذير المسلم من الشر فإذا رأيت فقيهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق وكذلك من اشترى مملوكاً وقد عرفت المملوك بالسرقة أو بالفسق أو بعيب آخر فلك أن تذكر ذلك فإن سكوتك ضرر المشترى وفي ذكرك ضرر العبد والمشترى أولى بمراعاة جانبه‏.‏

وكذلك المزكي إذا سئل عن الشاهد فله الطعن فيه إن علم مطعناً وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة‏:‏ فإن علم أن يترك التزويج بمجرد قوله‏:‏ لا تصلح لك فهو الواجب وفيه الكفاية وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس وكانوا يقولون ثلاثة لا غيبة لهم‏:‏ الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه‏.‏

الخامس‏:‏ أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش فلا إثم على من يقول روى أبو الزناد عن الأعرج وسلمان عن الأعمش وما يجري مجراه فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به‏.‏

نعم إن وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى ولذلك يقال للأعمى‏:‏ البصير عدولاً عن اسم النقص‏.‏

السادس‏:‏ أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف‏.‏

من أن يذكر له ولا يكره أن يذكر به فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له وقال عمر رضي الله عنه ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر لا بد من مراعاة حرمته‏.‏

وقال الصلت بن طريف‏:‏ قلت للحسن‏:‏ الرجل الفاسق المعلن بفجوره ذكرى له بما فيه غيبة له قال‏:‏ لا ولا كرامة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ثلاثة لا غيبة لهم صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر فهؤلاء الثلاثة بجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به إثم‏.‏

وقال عوف‏:‏ دخلت على ابن سيرين فتناولت عنده الحجاج فقال‏:‏ إن الله حكم عدل ينتقم للحجاج ممن اغتابه من الحجاج لمن ظلمه وإنك إذا لقيت الله تعالى غداً كان أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج‏.‏

بيان كفارة الغيبة

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته‏!‏ وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع وفي الباطن لا يكون نادماً فيكون قد قارف معصية أخرى وقال الحسن‏.‏

يكفيه الاستغفار دون الاستحلال‏.‏

وربما استدل في ذلك بما روى أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال مجاهد كفارة أكلك لحم أخيك‏:‏ أن تثني عليه وتدعو له بخير‏.‏

وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة قال‏:‏ أن تمشي إلى صاحبك فتقول له كذبت فيما قلت وظلمتك وأسأت فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت وهذا هو الأصح وقول القائل‏:‏ العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال كلام ضعيف إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به‏.‏

بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم إنما يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل‏:‏ قد اغتبتيها فاستحليها‏.‏

فإذن لا بد من الاستحلال إن قدر عليه فإن كان غائباً أو ميتاً فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات‏.‏

فإن قلت‏:‏ فالتحليل هل يجب فأقول‏:‏ لا لأنه تبرع والتبرع فضل وليس بواجب ولكنه مستحسن وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة‏.‏

وكان بعض السلف لا يحلل‏.‏

قال سعيد بن المسيب‏:‏ لا أحلل من ظلمني‏.‏

وقال ابن سيرين‏:‏ إني لم أحرمها عليه فأحللها له عن الله حرم الغيبة عليه وما كنت لأحلل ما حرم الله أبداً‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يستحلها وتحليل ما حرمه الله تعالى غير ممكن فنقول‏:‏ المراد به العفو عن المظلمة لا أن ينقلب الحرام حلالاً وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيعجز أحدكم أن يكون كابي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس فكيف يتصدق بالعرض ومن تصدق به فهل يباح تناوله فإن كان لا تنفيذ صدقته فما معنى الحث عليه فنقول‏:‏ معناه أني لا أطلب مظلمة في القيامة منه ولا أخاصمه وإلا فلا تصير الغيبة حلالاً به ولا تسقط المظلمة عنه لأنه عفو قبل الوجوب إلا أنه وعد وله العزم على الوفاء بأن لا يخاصم فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق أن له ذلك‏.‏

بل صرح الفقهاء أن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا وعلى الجملة فالعفو أفضل‏.‏

قال الحسن إذا جثت الأمم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة نودوا ليقم من كان له أجر على الله فلا يقوم إلا العافون عن الناس في الدنيا‏.‏

وقد قال الله تعالى ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا جبريل ما هذا العفو قال‏:‏ إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك‏.‏

وروي عن الحسن أن رجلاً قال له‏:‏ إن فلاناً قد اغتباك فبعث إليه رطباً على طبق وقال‏:‏ قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام‏.‏

الآفة السادسة عشرة قال الله تعالى ‏"‏ هماز مشاء بنميم ‏"‏ ثم قال ‏"‏ عتل بعد ذلك زنيم ‏"‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏ الزنيم ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث وأشار به إلى أن كل من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة دل على أنه ولد زنا استنباطاً من قوله عز وجل ‏"‏ عتل بعد ذلك زنيم ‏"‏ والزنيم هو الدعى وقال تعالى ‏"‏ ويل لكل همزة لمزة ‏"‏ قيل الهمزة‏:‏ النمام وقال تعالى ‏"‏ حمالة الحطب ‏"‏ قيل إنها كانت نمامة حمالة للحديث وقال تعالى ‏"‏ فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ‏"‏ قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان وامرأة نوح تخبر أنه مجنون وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يدخل الجنة نمام وفي حديث آخر ‏"‏ لا يدخل الجنة قتات ‏"‏ والقتات هو النمام وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبرءاء العثرات وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا أخبركم بشراركم ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى قال ‏"‏ المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرءاء العيب وقال أبو ذر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة وقال أبو الدرداء‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار ويقال‏:‏ إن ثلث عذاب القبر من النميمة‏.‏

وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله لما خلق الجنة قال لها تكلمي فقالت سعد من دخلني فقال الجبار جل جلاله وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس لا يسكنك مدمن خمر ولا مصر على الزنا ولا قتات وهو النمام ولا ديوث ولا شرطي ولا مخنث ولا قاطع رحم ولا الذي يقول على عهد الله إن لم أفعل كذا وكذا لم يف به وروى كعب الأحبار أن بني إسرائيل أصابهم قحط فاستسقى موسى عليه السلام مرات فما سقوا فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ إني لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة‏.‏

فقال موسى‏:‏ يا رب من هو دلني عليه حتى أخرجه من بيننا‏.‏

قال‏:‏ يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً فتابوا جميعاً فسقوا‏.‏

ويقال اتبع رجل حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات فلما قدم عليه قال‏:‏ إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم أخبرني عن السماء وما أثقل منها وعن الأرض وما أوسع منها وعن الصخر وما أقسى منه وعن النار وما أحر منها وعن الزمهرير وما أبرد منه وعن البحر وما أغنى منه وعن اليتيم وما أذل منه فقال له الحكيم‏:‏ البهتان على البريء أثقل من السموات والحق أوسع من الأرض والقلب القانع أغنى من البحر والحرص والحسد أحر من النار والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير وقلب الكافر بيان حد النميمة وما يجب في ردها

اعلم أن اسم النميمية إنما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه كما تقول فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا وليست النميمة مختصة به‏.‏

بل حدها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو كرهه ثالث‏.‏

وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له فأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره هو نميمة وإفشاء للسر فإن كان ما ينم به نقصاً وعيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة‏.‏

فالباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له أو التفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل‏.‏

وكل من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل في حقك كذا أو هو يدبر في إفساد أمرك أو في ممالأة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور الأول‏:‏ أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الشهادة قال الله تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة ‏"‏ الثاني‏:‏ أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله قال الله تعالى ‏"‏ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ‏"‏ الثالث‏:‏ أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى‏.‏

والرابع‏:‏ أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى ‏"‏ اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ‏"‏ الخامس‏:‏ أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتحقق اتباعاً لقول الله تعالى ‏"‏ ولا تجسسوا ‏"‏ السادس‏:‏ أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا فتكون به نماماً ومغتاباً وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت‏.‏

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً فقال له عمر‏:‏ إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية ‏"‏ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ‏"‏ وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية ‏"‏ هماز مشاء بنميم ‏"‏ وإن شئت عفونا عنك فقال‏:‏ العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً‏.‏

وذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له الحكيم‏:‏ قد أبطأت في الزيارة وأتيت بثلاث جنايات بغضت أخي إلي وشغلت قلبي الفارغ واتهمت نفسك الأمينة‏.‏

وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان‏:‏ بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا فقال الرجل‏:‏ ما فعلت ولا قلت فقال سليمان‏:‏ إن الذي أخبرني صادق فقال له الزهري‏:‏ لا يكون النمام صادقاً فقال سليمان‏:‏ صدقت ثم قال للرجل‏:‏ اذهب بسلام‏.‏

وقال الحسن من نم إليك نم عليك‏.‏

وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته‏.‏

وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وقال تعالى ‏"‏ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق ‏"‏ والنمام منهم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره والنمام منهم‏.‏

وقال ‏"‏ لا يدخل الجنة قاطع ‏"‏ قيل وما القاطع قال ‏"‏ قاطع بين الناس وهو النمام وقيل قاطع الرحم‏.‏

وروي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له‏:‏ يا هذا نحن نسأل عما قلت فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت نقيلك أقلناك فقال‏:‏ أقلني يا أمير المؤمنين‏.‏

وقيل لمحمد بن كعب القرظي أي خصال المؤمن أوضع له فقال‏:‏ كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد‏.‏

وقال رجل لعبد الله ابن عامر - وكان أميراً - بلغني أن فلاناً أعلم الأمير أني ذكرته بسوء قال‏:‏ قد كان ذلك قال‏:‏ فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك قال‏:‏ ما أحب أن أشتم نفسي بلساني وحسبي أني لم أصدقه فيما قال ولا أقطع عنك الوصال‏.‏

وذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال‏:‏ ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من كل طائفة من الناس إلا منهم وقال مصعب بن الزبير‏:‏ نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه فاتقوا الساعي فلو كان صادقاً في قوله لكان لئيماً في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة‏.‏

والسعاية هي النميمة إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الساعي بالناس إلى الناس لغيرة رشدة يعني ليس بولد حلال‏.‏

ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذنه في الكلام وقال‏:‏ إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته فقال‏:‏ قل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ولا تصح إليهم فيما استحفظك الله إياه فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً وفي الأمانة تضييعاً والأعراض قطعاً وانتهاكاً أعلى قربهم البغي والنميمة وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة وأنت مسؤول عما أجرموا وليسوا المسؤولين عما أجرمت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره‏.‏

وسعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك فجمع بينهما للموافقة فأقبل زيادة على الرجل وقال‏:‏ فأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم وقال رجل لعمرو بن عبيد‏:‏ إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر فقال له عمرو‏:‏ يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعمله أن الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين‏.‏

ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يجمله على أخذه لكثرته فوقع على ظهرها‏:‏ السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها افضل من الربح ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك فتوق يا ملعون العيب فإن الله أعلم بالغيب الميت رحمه الله واليتيم جبره الله والمال ثمره الله والساعي لعنه الله‏.‏

وقال لقمان لابنه‏:‏ يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيداً ابسط خلقك للقريب والبعيد‏.‏

وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لو صح ما نقله النمام إليك لكان المجترئ بالشتم عليك والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك‏.‏

وعلى الجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى‏.‏

قال حماد بن سلمة‏:‏ باع رجل عبداً وقال للمشتري ما فيه عيب إلا النميمة قال‏:‏ رضيت فاشتراه فمكث الغلام أياماً ثم قال زوجة مولاه‏:‏ إن سيدي لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك فخذي المؤسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها فيحبك ثم قال للزوج‏:‏ إن امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك فتناوم لهام حتى تعرف ذلك فتناوم لها فجاءت المرأى بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها‏.‏

فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج ووقع القتال بين القبيلتين‏.‏

فنسأل الله حسن التوفيق‏.‏

الآفة السابعة عشرة كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين وذلك عين قال عمار بن ياسر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث وفي لفظ آخر ‏"‏ الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ‏"‏ وقال أبو هريرة‏:‏ لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً عند الله‏.‏

وقال مالك بن دينار‏:‏ قرأت في التوارة بطلب الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين يهلك الله تعالى يوم القيامة كل شفتين مختلفتين‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أبغض خليقة الله إلى الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم فإذا لقوهم تملقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بكاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً وقال ابن مسعود‏:‏ لا يكونن أحدكم إمعة قالوا‏:‏ وما الإمعة قال الذي يجري مع كل ريح‏.‏

واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها‏.‏

وقد روي أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر‏:‏ يموت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تصل عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنهم منهم فقال‏:‏ نشدتك الله أنا منهم أم لا قال‏:‏ اللهم لا ولا أؤمن منها أحداً بعدك‏.‏

فإن قلت‏:‏ بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك فأقول‏:‏ إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقاً فيه لم يكن منافقاً ولا ذا لسانين فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء - كما ذكرنا في كتاب آداب الصحبة والأخوة - نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة إذ يصير نماماً بأن ينقل من أحد الجانبين فقط فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام وإن لم ينقل كلاماً ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره وكذلك إذا أثنى على واحد منهما في معاداته‏.‏

وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين‏.‏

بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين‏.‏

ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه‏.‏

قيل لابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره فقال‏:‏ كنا نعد هذا نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نفاق مهما كان مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه فلو استغنى عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه فدخل لضرورة الجاه والغنى وأثنى فهو منافق‏.‏

وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حب المال والجاه ينبتان النفاق في القبل كما ينبت الماء البقل لأنه يحوج إلى الأمراء وإلى مراعاتهم ومراءاتهم‏.‏

فأما إذا ابتلى به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور فإن اتقاء الشر جائز‏.‏

قال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو ‏"‏ ثم لما دخل ألان له القول فلما خرج قلت‏:‏ يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول فقال ‏"‏ يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم‏:‏ فأما الثناء فهو كذب صراح ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب بمثله - كما ذكرنا في آفة الكذب - بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كلام باطل فإن فعل ذلك فهو منافق بل ينبغي أن ينكر فإن لم يقدر فيسكت بلسانه في معرض التقرير على كل كلام باطل فإن فعل ذلك فهو منافق بل ينبغي أن ينكر فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه‏.‏

الآفة الثامنة عشرة المدح وهو منهي عنه في بعض المواضع‏.‏

أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها‏.‏

والمدح يدخله ست آفات‏:‏ أربع في المادح واثنتان في الممدوح‏.‏

فأما المادح فالأولى‏:‏ أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب‏.‏

قال خالد بن معدان‏:‏ من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه‏.‏

والثانية‏:‏ أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً‏.‏

الثالثة‏:‏ أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه وروي أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام ‏"‏ ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح ‏"‏ ثم قال ‏"‏ إن كان أحدكم لا بد مادحاً أخاه فليقل أحسب فلاناً ولا أزكى على الله أحداً حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقولة إنه متق وورع وزاهد وخير وما يجري مجراه فأما إذا قال رأيته يصلي بالليل ويتصدق ويحج فهذه أمور مستيقنة‏.‏

ومن ذلك قوله إنه عدل رضا فإن ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة‏.‏

سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجل فقال‏:‏ أسافرت معه قال‏:‏ لا قال‏:‏ أخالطته في المبايعة والمعاملة قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فأنت جاره صباحه الرابعة‏:‏ أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق وقال الحسن‏:‏ من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح‏.‏

وأما الممدوح فيضره من وجهين أحدهما‏:‏ أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان‏.‏

قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر فقال رجل‏:‏ هذا سيد ربيعة فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال‏:‏ ما لي ولك يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ما لي ولك أما سمعتها قال‏:‏ سمعتها فمه قال‏:‏ خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك‏.‏

الثاني‏:‏ هو أنه إذا أنثى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصراً‏.‏

فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام ‏"‏ قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضاً وقال أيضاً لمن مدح رجلاً ‏"‏ عقرت الرجل عقرك الله وقال مطرف‏:‏ ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي‏.‏

وقال زياد بن أبي مسلم‏:‏ ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشطيان ولكن المؤمن يراجع فقال ابن المبارك‏:‏ لقد صدق كلاهما أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيراً له من أن يثني عليه في وجهه وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ المدح هو الذبح‏.‏

وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهما مهلكان كالذبح لذلك شبهه به‏.‏

فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً غليه‏.‏

ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقال ‏"‏ لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح وقال في عمر ‏"‏ لو لم أبعث لبعثت يا عمر وأي ثناء يزيد على هذا ولكنه صلى الله عليه وسلم قال عن صدق وبصيرة‏.‏

وكانوا رضي الله عنهم أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً وفتوراً‏.‏

بل مدح الرجل نفسه قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إذ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لست أقول هذا تفاخراً كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم‏.‏

وذلك لأن افتخاره صلى الله عليه وسلم كان بالله وبالقرب من الله لا بولد آدم وتقدمه عليه كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يفتخر بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقدمهعلى بعض رعاياه‏.‏

وبتفصيل هذه الآفات تقدر على جمع بين ذم المدح وبين الحث عليه قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وجبت لما أثنوا على بعض الموتى‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه المسلم بخير قالت الملائكة‏:‏ ولك بمثله وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة‏:‏ يا ابن آدم المستور عورتك أربع على نفسك واحم الله الذي ستر عورتك‏.‏

فهذه آفات المدح‏.‏

بيان ما على الممدوح

اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ احثوا التراب في وجوه المادحين وقال سفيان بن عيينة‏:‏ لا يضر المدح من عرف نفسه‏.‏

وأثنى على رجل من الصالحين فقال‏:‏ اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني‏.‏

وقال آخر لما أثنى عليه‏:‏ اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته‏.‏

وقال علي رضي الله عنه لما أثنى عليه‏:‏ اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون‏.‏

وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال‏:‏ أتهلكني وتهلك نفسك وأثنى رجل على علي كرم الله وجهه في وجهه الآفة التاسعة عشر الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته ويرتبط بأمور الدين فلا يقدر على تقويم اللفظ في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء فمن قصر في علم أو فصاحة لم يخل كلامه عن الزلل لكن الله تعالى يعفو عنه لجهله‏.‏

مثاله‏:‏ ما قال حذيفة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكاً وتسوية وهو على خلاف الاحترام‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أجعلتني لله عديلاً بل ما شاء الله وحده‏.‏

وخطب رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال ‏"‏ قل‏:‏ ومن يعص الله ورسوله فقد غوى فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ومن يعصهما لأنه تسوية وجمع‏.‏

وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل‏:‏ أعوذ بالله وبك ويجوز أن يقول‏:‏ أعوذ بالله ثم بك‏.‏

وأن يقول‏:‏ لولا الله ثم فلان ولا يقول‏:‏ لولا الله وفلان وكره بعضهم أن يقال‏:‏ اللهم أعتقنا من النار وكان يقول‏:‏ العتق يكون بعد الورود‏.‏

وكانوا يستجيرون من النار ويتعوذون من النار‏.‏

وقال رجل‏:‏ اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال حذيفة‏:‏ إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ إذا قال الرجل للرجل يا حمار يا خنزير‏!‏ قيل له يوم القيامة حماراً رأيتني خلقته خنزيراً رأيتني خلقته وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه فيقول‏:‏ لولاه لسرقنا الليلة‏.‏

وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت قال عمر رضي الله عنه‏:‏ فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها‏:‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تسموا العنب كرماً إنما الكرم الرجل المسلم 4 ‏"‏ وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل غلامي

وجاريتي وفتاي وفتاتي ولا يقول المملوك ربي ولا ربتي وليق سيدي وسيدتي فكلكم عبيد الله الرب الله سبحانه وتعالى ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تقولوا للفاسق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قال أنا بريء من الإسلام فإن كان صادقاً فهو كما قال وإن كان كاذباً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً فهذا وأمثاله مما يدخل في الكلام ومن تأمل جميع ما أوردنا من آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين‏.‏

الآفة العشرون سؤال العوام عن صفات الله تعالى وعن كلامه وعن الحروف وأنها قديمة أو محدثة ومن حقهم الاشتغال بالعمل بما في القرآن إلا أن ذلك ثقيل على النفوس والفضول خفيف على القلب‏.‏

والعامي يفرح بالخوض في العلم إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء وأهل الفضل ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر وهو لا يدري‏.‏

وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته‏.‏

وإنما شأن العوام الاشتغال بالعبادات والإيمان بما ورد به القرآن والتسليم لما جاء به الرسل من غير بحث وسؤالهم عن غير ما يتعلق بالعبادات سوء أدب منهم يستحقون به المقت من الله عز وجل ويتعرضون لخطر الكفر وهو كسؤال ساسة الدواب عن أسرار الملوك وهو موجب للعقوبة‏.‏

وكل من سأل عن علم غامض ولم يبلغ فهمه تلك الدرجة فهو مذموم فإنه بالإضافة إليه عامي‏.‏

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقال أنس‏:‏ سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأكثروا عليه وأغضبوه فصعد المنبر وقال ‏"‏ سلوني لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله من أبي فقال ‏"‏ أبوك حذافة ‏"‏ فقال إليه شابان أخوان فقالا‏:‏ يا رسول الله من أبوناً فقال‏:‏ أبوكما الذي تدعيان إليه ثم قام إليه رجل آخر فقال‏:‏ يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار فقال ‏"‏ لا بل في النار ‏"‏ فلما رأى الناس غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوا فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال‏:‏ رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً فقال ‏"‏ اجلس يا عمر رحمك الله إنك ما علمت لموفق‏.‏

وفي الحديث‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يوشك الناس يتساءلون بينهم حتى يقولوا قد خلق الله الخلق فمن خلق الله فإذا قالوا ذلك فقولوا ‏"‏ قل هو الله أحد الله الصمد ‏"‏ حتى تختموا السورة ثم ليتفل أحدكم عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏.‏

وقال جابر‏:‏ ما نزلت آية المتلاعنين إلا لكثرة السؤال‏.‏

وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام تنبيه على المنع من السؤال قبل أوان استحقاقه إذ قال ‏"‏ فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً ‏"‏ فلما سأل عن السفينة أنكر عليه حتى اعتذر وقال ‏"‏ لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً ‏"‏ فلم يصبر حتى سأل ثلاثاً قال ‏"‏ هذا فراق بيني وبينك ‏"‏ وفارقه‏.‏

فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات وهو من المثيرات للفتن فيجب قمعهم ومنعهم من ذلك‏.‏

وخوضهم في حروف القرآن يضاهي حال من كتب الملك إليه كتاباً ورسم له فيه أموراً فلم يشتغل بشي منها وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أو حديث فاستحق بذلك العقوبة لا محالة‏.‏

فكذلك تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه أهي قديمة أم حديثة وكذلك سائر صفات الله سبحانه وتعالى‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

كتاب ذم الغضب والحقد والحسد

وهو الكتاب الخامس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا يتكل على عفوه ورحمته إلا الراجون ولا يحذر سوء غضبه وسطوته إلا الخائفون الذي استدرج عباده من حيث لا يعلمون وسلط عليهم الشهوات وأمرهم بترك ما يشتهون وابتلاهم بالغضب وكلفهم كظم الغيظ فيما يغضبون ثم حفهم بالمكاره واللذات وأملى لهم لينظر كيف يعملون وامتحن بهم حبهم ليعلم صدقهم فيما يدعون وعرفهم أنه لا يخفى عليه شيء مما يسرون وما يعلنون وحذرهم أن يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون فقال ‏"‏ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ‏"‏ والصلاة والسلام على محمد رسوله الذي يسير تحت لوائه النبيون وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين والسادة المرضيين صلاة يوازي عددها عدد ما كان من خلق الله وما سيكون ويحظى ببركتها الأولون والآخرون وسلم تسليماً كثيرا‏.‏

أما بعد فإن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وإنها لمستكنة في طي الفؤاد‏.‏

استكنان الجمر تحت الرماد ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد كاستخراج الحجر النار من الحديد وقد انكشف للناظرين بنور اليقين أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال ‏"‏ خلقتني من نار وخلقته من طين ‏"‏ فإن شأن الطين السكون والوقار وشأن النار التلظي والاستعار والحركة والاضطراب ومن نتائج الغضب الحقد والحسد وبهما هلك من هلك وفسد من فسد ومفيضهما مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد وإذا كان الحقد والحسد والغضب مما يسوق العبد إلى مواطن العطب فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه‏!‏ ليحذر ذلك ويتقيه ويمطيه عن القلب إن كان وينفيه ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه فإن من لا يعرف الشر يقع فيه ومن عرفه فالمعرفة لا تكفيه ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه‏.‏

ونحن نذكر ذم الغضب وآفات الحقد والحسد في هذا الكتاب ويجمعهما بيان ذم الغضب ثم بيان حقيقة الغضب ثم بيان أن الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا ثم بيان الأسباب المهيجة للغضب ثم بيان علاج الغضب بعد هيجانه ثم بيان فضيلة كظم الغيظ ثم بيان فضيلة الحلم ثم بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام ثم القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق ثم القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته ثم بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه ثم بيان الدواء الذي به ينفى مرض الحسد عن القلب ثم بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب وبالله التوفيق‏.‏

بيان ذم الغضب قال الله تعالى ‏"‏ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ‏"‏ الآية‏.‏

ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة وروى أبو هريرة أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله مرني بعمل وأقلل قال ‏"‏ لا تغضب ‏"‏ ثم أعاد عليه فقال ‏"‏ لا تغضب وقال ابن عمر‏:‏ قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قل لي قولاً وأقلله لعلي أعقله فقال ‏"‏ لا تغضب ‏"‏ فأعدت عليه مرتين كل ذلك يرجع إلى ‏"‏ لا تغضب وعن عبد الله بن عمرو‏:‏ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينقذني من غضب الله قال ‏"‏ لا تغضب وقال ابن مسعود قال النبي صلى اللهعليه وسلم ‏"‏ ما تعدون الصرعة فيكم قلنا‏:‏ الذي لا تصرعه الرجال قال ‏"‏ ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب وقال أبو هريرة‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وقال ابن عمر‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كف غضبه ستر الله عورته وقال سليمان ابن داود عليهما السلام‏:‏ يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم‏.‏

وعن عكرمة في قوله تعالى ‏"‏ وسيداً وحصوراً ‏"‏ قال‏:‏ السيد الذي لا يغلبه الغضب‏.‏

وقال أبو الدرداء‏:‏ قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال‏:‏ ‏"‏ لا تغضب وقال يحيى لعيسى عليهما السلام‏:‏ لا تغضب قال‏:‏ لا أستطيع أن لا أغضب إنما أنا بشر قال‏:‏ لا تقتن مالاً قال‏:‏ هذا عسى‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم وقال له رجل‏:‏ أي شيء أشد علي قال ‏"‏ غضب الله ‏"‏ قال‏:‏ فما يبعدني عن غضب الله قال ‏"‏ لا تغضب‏.‏

الآثار‏:‏ قال الحسن‏:‏ يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب وثبة فتقع في النار‏.‏

وعن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال‏:‏ علمني علماً أزداد به إيماناً ويقيناً قال‏:‏ لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة‏.‏

وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد ولا تكن جباراً عنيداً‏.‏

وعن وهب بن منبه‏.‏

أن راهباً كان في صومعته فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع فجاءه حتى ناداه فقال له‏:‏ افتح فلم يجبه فقال‏:‏ افتح فإني إن ذهبت ندمت فلم يلتفت إليه فقال إني أنا المسيح قال الراهب‏:‏ وإن كنت المسيح فما أصنع بك‏!‏ أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك فقال‏:‏ إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك فقال‏:‏ ما أريد أن أسألك عن شيء قال‏:‏ فولى مدبراً فقال الراهب‏:‏ ألا تسمع قال‏:‏ بلى أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم فقال‏:‏ الحدة إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة‏.‏

وقال خيثمة‏:‏ الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه وقال جعفر بن محمد‏:‏ الغضب مفتاح كل شر‏.‏

وقال بعض الأنصار‏:‏ رأس الحمق الحدة وقائده الغضب ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم والحلم زين ومنفعهة والجهل شين ومضرة والسكوت عن جواب الأحمق جوابه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ قال إبليس ما أعجزني بنود آدم فلن يعجزوني في ثلاث‏:‏ إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم ونبخله بما في يديه ونمنيه بما لا يقدر عليه‏.‏

وقيل لحكيم‏:‏ ما أملك فلاناً لنفسه‏!‏ قال‏:‏ إذاً لا تذله الشهوة ولا يصرعه الهوى ولا يغلبه الغضب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إياك والغضب فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار‏.‏

وقيل‏:‏ اتقوا الغضب فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب وما علمك بأمانته إذا لم يطمع وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك وإذا غضبت على رجل فاحبسه فإن سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه ولا تجاوز به خمسة عشر سوطاً‏.‏

وقال علي بن يزيد‏:‏ أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول فأطرق عمر زماناً طويلاً ثم قال‏:‏ أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً وقال بعضهم لابنه‏:‏ يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة فأقل الناس غضباً أعقلهم فإن كان للدنيا كان دعاء ومكراً وإن كان للآخرة كان حلماً وعلماً فقد قيل‏:‏ الغضب عدو العقل والغضب غول العقل‏.‏

وكان عمر رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته‏:‏ أفلح منكم من حفظ من الطمع والهوى والغضب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار‏.‏

وقال الحسن‏:‏ من علامات المسلم قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وعلم في حلم وكيس في رفق وإعطاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وإحسان في قدرة وتحمل في رفاقة وصبر في شدة لا يغلبه الغضب ولا تجمح به الحمية ولا تغلبه شهوة ولا تفضحه بطنه ولا يستخفه حرصه ولا تقصر به نيته فينصر المظلوم ويرحم الضعيف ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل‏.‏

نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء‏.‏

وقيل لعبد الله بن المبارك أجمل لنا حسن الخلق في كلمة‏.‏

فقال اترك الغضب‏.‏

وقال نبي من الأنبياء لمن تبعه‏:‏ من يتكفل لي أن لا يغضب فيكون معي في درجتي ويكون بعدي خليفتي فقال شاب من القوم‏:‏ أنا ثم أعاد عليه فقال الشاب‏:‏ أنا أوفي به فلما مات كان في منزلته بعده وهو ذو الكفل سمي به لأنه تكفل بالغضب ووفى به‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ للكفر أربعة أركان الغضب والشهوة والخرق والطمع‏.‏

بيان حقيقة الغضب

اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضاً للفساد والموتان بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه‏.‏

أما السبب الداخلي‏:‏ فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب‏.‏

وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان‏:‏ فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته‏.‏

فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين والبشر لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها‏.‏

وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً ولذلك يصفر اللون وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب‏.‏

وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها‏.‏

والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها ولا تسكن إلا به‏.‏

ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاثة في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال‏.‏

أما التفريط‏:‏ فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له‏.‏

ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار‏.‏

فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية فقال ‏"‏ أشداء على الكفار رحماء بينهم ‏"‏ وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ‏"‏ الآية وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب‏.‏

وأما الإفراط‏:‏ فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار بل يصير في صورة المضطر‏.‏

وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية‏:‏ فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإنما برودة المزاج تطفئه وتكسر سورته‏.‏

وأما الأسباب الاعتيادية‏:‏ فهو أن يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية فيقول الواحد منهم‏:‏ أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد مراً‏!‏ ومعناه لا عقل في ولا حلم‏.‏

ثم يذكره في معرض الفخر بجهله‏.‏

فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب وحب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب‏.‏

ومهما اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة فإذا وعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضباً وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب فإن معدن الفكر الدماغ ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه وتسود عليه الدنيا بأسرها ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار‏.‏

فاسود جوه وحمى مستقره وامتلأ بالدخان جوانيه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق‏:‏ فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ‏.‏

وربما تقوى نار الغضب فتفني الرطوبة التي بها حياة القلب فيموت صاحبه غيظاً كما تقوى النار في الكهف فينشق وتنهد أعاليه على أسفله وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه فهكذا حال القلب عند الغضب‏.‏

وبالحقيقة فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسن حالاً وأرجى سلامة من النفس المضطربة غيظاً إذ في السفينة من يحتال لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها وأما القلب فهو صاحب السفينة وقد سقطت حيلته إذ أعماه الغضب وأصمه‏.‏

ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس الثمرة بالمثمرة فهذا أثره في الجسد‏.‏

وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ‏.‏

أما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ويطلم نفسه وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير وربما يسقط سريعاً لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ويعتريه مثل الغشية وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة مثلاً على الأرض وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها‏.‏

ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول‏:‏ إلى متى منك هذا يا كيت وكيت كأنه يخاطب عاقلاً حتى ربما رفسته فيرفس الدابة ويقابلها بذلك‏.‏

وأما أثرة في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح فهذه ثمرة الغضب المفرط‏.‏

وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرام وهو خنوثة قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وأن الله أغير مني وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب‏.‏

ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب‏.‏

ولذلكقيل كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها‏.‏

ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خير أمتي أحداؤها يعني في الدين وقال تعالى ‏"‏ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ‏"‏ بل من فقد الغضب عجز عن رياضة نفسه إذ لا تتم الرياضة إلا بتسليط الغضب على الشهوة حتى يغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة‏.‏

ففقد الغضب مذموم وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال ‏"‏ خير الأمور أوساطها فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه‏.‏

ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين فهو الصراط المستقيم وهو أرق من الشعرة وأحد من السيف فأن عجز عنه فليطلب القرب منه قال تعالى ‏"‏ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ‏"‏ فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله ولكن بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض‏.‏

فهذه حقيقة الغضب ودرجاته نسأله الله حسن التوفيق لما يرضيه إنه على ما يشاء قدير‏.‏

اعلم أنه ظن ظانون أنه يتصور محو الغضب بالكلية وزعموا أن الرياضة إليه تتوجه وإياه تقصد وظن آخرون أنه أصل لا يقبل العلاج‏.‏

وهذا رأي من يظن أن الخلق كالخلق وكلاهما لا يقبل التغيير وكلا الرأيين ضعيف‏.‏

بل الحق فيه ما نذكره وهو أنه ما بقي الإنسان يحب شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر فلا بد من أن يحب ما يوافقه ويكره ما يخالفه والغضب يتبع ذلك فإنه مهما أخذ منه محبوبه غضب لا محالة وإذا قصد بمكروه غضب لا محالة‏.‏

إلا أن ما يحبه الإنسان ينقسم إلى ثلاثة أقسام الأول‏:‏ ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت والمسكن والملبس وصحة البدن فمن قصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب وكذلك إذا أخذ منه ثوبه الذي يستر عورته وكذلك إذا أخرج من داره التي هي مسكنه أو أريق ماؤه الذي لعطشه فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها ومن غيظ على من يتعرض لها‏.‏

القسم الثاني‏:‏ ما ليس ضرورياً لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير والغلمان والدواب فإن هذه الأمور صارت محبوبة بالعادة والجهل بمقاصد الأمور حتى صار الذهب والفضة محبوبين في أنفسهما فيكنزان ويغضب على من يسرقهما وإن كان مستغنياً عنهما في القوت فهذا الجنس مما يتصور أن ينفك الإنسان عن أصل الغيظ عليه فإذا كانت له دار زائدة على مسكنه فهدمه ظالم فيجوز أن لا يغضب إذ يجوز أن يكون بصيراً بأمر الدنيا فيزهد في الزيادة على الحاجة فلا يغضب بأخذها فإنه لا يحب وجودها ولو أحب وجودها لغضب على الضرورة بأخذها وأكثر غضب الناس على ما هو غير ضروري كالجاه والصيت والتصدر في المجالس والمباهاة في العلم فمن غلب هذا الحب عليه فلا محالة يغضب إذا زاحمه مزاحم على التصدر في المحافل ومن لا يحب ذلك فلا يبالي ولو جلس في صف النعال فلا يغضب إذا جلس غيره فوقه‏.‏

وهذه العادات الرديئة هي التي أكثرت محاب الإنسان ومكارهه فأكثرت غضبه وكلما كانت الإرادات والشهوات أكثر كان صاحبها أحط رتبة وأنقص لأن الحاجة صفة نقص فمهما كثرت كثر النقص والجاهل أبدا جهده في أن يزيد في حاجاته وفي شهواته وهو لا يدري أنه مستكثر من أسباب الغم والحزن حتى ينتى بعض الجهال بالعادات الرديئة ومخالطة قرناء السوء إلى أن يغضب لو قيل له‏:‏ إنك لا تحسن اللعب بالطيور واللعب بالشطرنج ولا تقدر على شرب الخمر الكثير وتناول الطعام الكثير وما يجري مجراه من الرذائل فالغضب على هذا الجنس ليس بضروري لأن حبه ليس بضروري‏.‏

القسم الثالث ما يكون ضرورياً في حق بعض الناس دون البعض كالكتاب مثلاً في حق العالم لأنه مضطر إليه فيحبه فيغضب على من يحرقه ويغرقه وكذلك أدوات الصناعات في حق المكتسب الذي لا يمكنه التوصل إلى القوت إلا بها فإنما هو وسيلة إلى الضروري والمحبوب يصير ضرورياً ومحبوباً وهذا يختلف بالأشخاص وإنما الحب الضروري ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ‏"‏ من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ومن كان بصيراً بحقائق الأمور وسلم له هذه الثلاثة يتصور أن لا يغضب في غيرها فهذه ثلاثة أقسام فلنذكر غاية الرياضة في كل واحد منها‏.‏

أما القسم الأول‏:‏ فليست الرياضة فيه لينعدم غيظ القلب ولكن لكي يقدر على أن لا يطيع الغضب ولا يستعمله في الظالم إلا على حد يستحبه الشرع ويستحسنه العقل وذلك ممكن بالمجاهدة وتكلف الحلم والاحتمال مدة حتى يصير الحلم والاحتمال خلقاً راسخاً فأما قمع أصل الغيظ من القلب فذلك ليس مقتضى الطبع وهو غير ممكن نعم يمكن كسر سورته وتضعيفه حتى لا يشتد هيجان الغيظ في الباطن وينتهي ضعفه إلى أن لا يظهر أثره في الوجه ولكن ذلك شديد جداً وهذا حكم القسم الثالث أيضاً لأن ما صار ضرورياً في حق شخص فلا يمنعه من الغيظ استغناء غيره عنه‏.‏

فالرياضة فيبه تمنع العمل به وتضعف هجيانه في الباطن حتى لا يشتد التألم بالصبر عليه‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ فيمكن التوصل بالرياضة إلى الانفكاك عن الغضب عليه إذ يمكن إخراج حبه من القلب وذلك بأن يعلم الإنسان أن وطنه القبر ومستقره الآخرة وأن الدنيا معبر يعبر عليها ويتزود منها قدر الضرورة وما وراء ذلك عليه وبال في وطنه ومستقره فيزهد في الدنيا ويمحو حبها عن قلبه ولو كان للإنسان كلب لا يحبه لا يغضب إذا ضربه غيره فالغضب تبع للحب‏.‏

فالرياضة في هذا تنتهي إلى قمع أصل الغضب وهو نادر جداً وقد تنتهي إلى المنع من استعمال الغضب والعمل بموجبه وهو أهون‏.‏

فإن قلت‏:‏ الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب فمن له شاة مثلاً وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد وإن كان يحصل فيه كراهة وليس من ضرورة كل كراهة غضب فإن الإنسان يتألم بالفصد والحجامة ولا يغضب على الفصاد والحجام فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه فلا يغضب على أحد من خلقه إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه وجرحه وقتله فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه فيقول هذا على هذا الوجهغير محال ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف تغلب في أحوال مختلفة ولا تدوم ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعاً طبيعياً لا يندفع عنه ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يغضب حتى تحمر وجنتاه حتى قال ‏"‏ اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وقال عبد اله بن عمرو بن العاص‏:‏ يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا فقال ‏"‏ اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق ‏"‏ وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق أي لا أعمل بموجب الغضب‏.‏

وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مالك جاءك شيطانك ‏"‏ فقال‏:‏ وما لك شيطان قال ‏"‏ بلى ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير ولم يقل‏:‏ لا شيطان لي وأراد شيطان الغضب لكن قال‏:‏ لا يحملني على الشر‏.‏

وقال علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له فكان يغضب على الحق وإن كان غضبه لله فهو التفات إلى الوسائط على الجملة بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته وحاجته التي لا بد له في دينه منها فإنما غضب لله فلا يمكن الانفكاك عنه‏.‏

نعم قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولاً بضروري أهم منه فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه‏.‏

وهذا كما أن سلمان لما شتم قال‏:‏ إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول‏.‏

فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم‏.‏

وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال‏:‏ يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ ما ستر الله عنك أكثر فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان وذلك لجلالة قدره‏.‏

وقالت امرأة لمالك بن دينار‏:‏ يا مرائي فقال‏:‏ ما عرفني غيرك‏!‏ فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء ومنكراً على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه فلم يغضب لما نسب إليه‏.‏

وسب رجل الشعبي فقال‏:‏ إن كنت صادقاً فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر الله لك‏.‏

فهذه الأقاويل دالة في الظاهر على أنهم لم يغضبوا لاشتغال قلوبهم بمهمات دينهم ويحتمل أن يكون ذلك قد أثر في قلوبهم ولكنهم لم يشتغلوا به واشتغلوا بما كان هو الأغلب على قلوبهم فإذاً اشتغال القلب ببعض المهمات لا يبعد أن يمنع هيجان الغضب عند فوات بعض المحاب فإذاً يتصور فقد الغيظ إما باشتعال القلب بمهم أو بغلبة نظر التوحيد أو بسبب ثالث‏:‏ وهو أن يعلم أن الله يحب منه أن لا يغتاط فيطفئ شدة حبه لله غيظه وذلك غير محال في أحوال نادرة‏.‏

وقد عرفت بهذا أن الطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا عن القلب وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها - كما سيأتي في كتاب ذم الدنيا - ومن أخرج حب المزايا عن القلب تخلص من أكثر أسباب الغضب وما لا يمكن محوره يمكن كسره وتضعيفه فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه‏.‏

نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه إنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده‏.‏

بيان الأسباب المهيجة للغضب

قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بد من معرفة أسباب الغضب‏.‏

وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام‏:‏ أي شيء أشد قال‏:‏ غضب الله قال فما يقرب من غضب الله قال أن تغضب قال‏:‏ فما يبدي الغضب وما ينبته قال عيسى‏:‏ الكبر والفخر والتعزز والحمية‏.‏

والأسباب المهيجة للغضب هي‏:‏ الزهور والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها‏.‏

فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع‏.‏

وتميت العجب بمعرفتك بنفسك - كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب - وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك‏.‏

وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك‏.‏

وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب‏.‏

وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة‏.‏

وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضاً عن الغضب الذي يتولد منها‏.‏

ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه‏.‏

وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح والمرأة أسرع غضباً من الرجل والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل‏.‏

فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة ولبخله إذا فاتته الحبة حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه‏.‏

بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء‏.‏

بيان علاج الغضب بعد هيجانه

ما ذكرناه هو حسم لمواد الغضب وقطع لأسبابه حتى لا يهيج فإذا جرى سبب هيجه فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل‏.‏

أما العلم فهو ستة أمور الأول‏:‏ أن يتفكر في الأخبار التي سنوردها في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثوابه فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام وينطفئ عنه غيظه قال مالك بن أوس ابن الحدثان‏:‏ غضب عمر على رجل وأمر بضربه فقلت يا أمير المؤمنين ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ فكان عمر يقول ‏"‏ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ فكان يتأمل في الآية وكان وقافاً عند كتاب الله مهما تلي عليه كثير التدبر فيه فتدبر فيه وخلى الرجل‏.‏

وأمر عمر بن عبد العزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏ فقال لغلامه خل عنه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يخوف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو‏.‏

فقد قال تعالى في بعض الكتب القديمة‏:‏ يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق‏.‏

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيفاً إلى حاجة فأبطأ عليه فلما جاء قال ‏"‏ لولا القصاص لأوجعتك أي القصاص في القيامة‏.‏

وقيل ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها‏:‏ ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه‏.‏

الثالث‏:‏ أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو عن المصائب فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة‏.‏

وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه لأنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض غلا أن يكون محذوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه‏.‏

الرابع‏:‏ أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي ومشابهة الحليم الهادئ التارك للغضب للأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء ويخير نفسه بين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأرذال الناس وبين أن يتشبه بالعلماء والأنبياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء الخامس‏:‏ أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الإنتقام ويمنعه من كظم الغيظ ولا بد وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان له‏:‏ إن هذا يحمل منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس‏!‏ فيقول لنفسه‏:‏ ما أعجبك‏!‏ تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله وذلك يعظمه عند الله فما له وللناس وذل من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله له انتقم الآن أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة‏:‏ ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا فهذا وأمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه‏.‏

السادس‏:‏ أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده فكيف يقول مرادي أولى من مراد الله ويوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه‏.‏

وأما العمل فإن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‏.‏

هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال عند الغيظ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال ‏"‏ يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن فيستحب أن تقول ذلك فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً واضجع إن كنت جالساً واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك واطلب بالجلوس والاضجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة‏.‏

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمره عينيه فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فلينم فإن لم يزل ذلك فليتوضاً بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء‏:‏ فقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا غضب أحدكم فليوضأ بالماء فإنما الغضب من النار وفي وراية ‏"‏ إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ‏"‏ وقال ابن عباس‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وإذا غضبت فاسكت وقال أبو هريرة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غضبه وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض ‏"‏ وكأن هذا إشارة إلى السجود وتمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب‏.‏

وروي أن عمر غضب يوماً فدعا بماء فاستنشق وقال‏:‏ إن الغضب من الشيطان وهذا يذهب الغضب‏.‏

وقال عروة ابن محمد‏:‏ لما استعملت على اليمن قال لي أبي‏:‏ أوليت قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فإذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك وإلى الأرض تحتك ثم عظم خالقهما‏.‏

وروي أن أبا ذر قال لرجل‏:‏ يا ابن الحمراء - في خصومة بينهما - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ يا أبا ذر بلغني أنك اليوم عيرت أخاك بأمه ‏"‏ فقال‏:‏ نعم فانطلق أبو ذر ليرضي صاحبه فسبقه الرجل فسلم عليه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل ‏"‏ ثم قال ‏"‏ إذا غضبت فإن كنت قائماً فاقعد وإن كنت قاعداً فاتكئ وإن كنت متكئاً فاضطجع وقال المعتمر بن سليمان‏:‏ كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلاً وقال للأول‏:‏ إذا غضبت فأعطني هذه وقال للثاني‏:‏ إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه وقال للثالث‏:‏ إذا ذهب غضبي فأعطني هذه فاشتد غضبه يوماً فأعطى الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً فسكن بعض غضبه فأعطي الثانية فإذا فيها‏:‏ ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء فأعطي الثالثة فإذا فيها‏:‏ خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك‏.‏

أي لا تعطل الحدود‏.‏

وغضب المهدي على رجل فقال شبيب‏:‏ لا تغضب لله بأشد من غضبه لنفسه فقال‏:‏ خلوا سبيله‏.‏

فضيلة كظم الغيظ قال الله تعالى ‏"‏ والكاظمين الغيظ ‏"‏ وذكر ذلك في معرض المدح‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من غضبه كف الله عنه عذابه ومن اعتذر إلى ربه قبل الله عذره ومن خزن لسانه ستر الله عورته وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا ‏"‏ وفي وراية ‏"‏ ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً وقال ابن عمر‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن لجهنم باباً لا يدخله إلى من شفى غيظه بمعصية الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها عبد وما كظمها عبد إلا ملأ الله قلبه إيمانا وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق ويخيره من أي الحور شاء‏.‏

الآثار‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون‏.‏

وقال لقمان لابنه‏:‏ يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك‏.‏

وقال أيوب‏:‏ حلم ساعة يدفع شراً كثيراً‏.‏

واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع‏.‏

وقال رجل لعمر رضي الله عنه‏:‏ والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه‏.‏

فقال له رجل‏.‏

يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول ‏"‏ خذ العفو أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏"‏ فهذا من الجاهلين فقال عمر‏:‏ صدقت فكأنما كانت ناراً فأطفئت‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له‏.‏

وجاء رجل إلى سلمان فقال‏:‏ يا عبد الله أوصني قال‏:‏ لا تغضب قال لا أقدر قال‏:‏ فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك‏.‏